د. يوسف القرضاوي
مما يلزم مما اتفق عليه العلمانيون من حرمان الإسلام من حق إقامة دولة: ما نفَّقوه من مزاعم حول طبيعة هذه الدولة المرجوة، فقد تقولوا عليها الأقاويل، وصوروها تصويرا مليئا بالأخيلة والتهاويل.
قالوا إنها دولة (دينية) ويعنون بالدِّينية: أنها دولة كهنوتية، تتحكم في أهل الأرض باسم السماء، وتتحكم في دنيا الناس باسم الله، ويدعون أن (حاكمية الله) التي قال بها داعيان كبيران من دعاة العصر: أبو الأعلى المودودي في باكستان، وسيد قطب في مصر: توجب أن تكون هذه الدولة دينية. كدولة الكنيسة الأوربية فيما سمي: (العصور الوسطى).
وهذه الدولة في رأيهم، إنما يملك زمامها (رجال الدِّين) الذين ليس لأحد غيرهم أن يفسر الدِّين أو يصدر الأحكام، وهم يفسرون الدِّين من منطلق الجمود والأفق الضيق، ويرجعون إلى الأوراق القديمة، ولا ينظرون إلى الآفاق الجديدة.
وهذه كلها دعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها برهان.
فالحق أن الدولة الإسلامية: دولة مدنية، ككل الدول المدنية، لا يميزها عن غيرها إلا أن مرجعيتها الشريعة الإسلامية.
ومعنى (مدنية الدولة): أنها تقوم على أساس اختيار القوي الأمين، المؤهل للقيادة، الجامع لشروطها، يختاره بكل حرية: أهل الحل والعقد، كما تقوم على البيعة العامة من الأمة، وعلى وجوب الشورى بعد ذلك، ونزول الأمير أو الإمام على رأي الأمة، أو مجلس شوراها، كما تقوم كذلك على مسؤولية الحاكم أمام الأمة، وحق كل فرد في الرعية أن ينصح له، ويشير عليه، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر. بل يعتبر الإسلام ذلك فرض كفاية على الأمة، وقد يصبح فرض عين على المسلم، إذا قدر عليه، وعجز غيره عنه، أو تقاعس عن أدائه.
إن الإمام أو الحاكم في الإسلام مجرد فرد عادي من الناس، ليس له عصمة ولا قداسة. وكما قال الخليفة الأول: إني وليت عليكم ولست بخيركم.
وكما قال عمر بن عبد العزيز: إنما أنا واحد منكم، غير أن الله تعالى جعلني أثقلكم حملا.
هذا الحاكم في الإسلام مقيد غير مطلق، هناك شريعة تحكمه، وقيم توجهه، وأحكام تقيده، وهي أحكام لم يضعها هو ولا حزبه أو حاشيته، بل وضعها له ولغيره من المكلَّفين: رب الناس، مَلِك الناس، إله الناس. ولا يستطيع هو ولا غيره من الناس أن يلغوا هذه الأحكام، ولا أن يُجمِّدوها. ولا أن يأخذوا منها ويدعوا بأهوائهم. وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36]. وهناك أمة هي التي اختارت هذا الحاكم، وهي التي تحاسبه، وتقومه إذا اعوج، وتعزله إذا أصر على عوجه، ومن حق أي فرد فيها أن يرفض طاعته إذا أمر بأمر فيه معصية بيّنة لله تعالى. بل من واجبه أن يفعل ذلك، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وفي الحديث الصحيح المتفق عليه: "السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"[3]، والقرآن الكريم حين ذكر بيعة النساء للنبي، وفيها طاعة النبي وعدم معصيته: قيد ذلك بقوله: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12].هذا وهو المعصوم المؤيد بالوحي، فغيره أولى أن تكون طاعته مقيدة.
ولم نر أحدا من الخلفاء في تاريخ الإسلام، أضفى على نفسه، أو أضفى عليه المسلمون: نوعا من القداسة، بحيث لا ينقد ولا يُقَوَّم، ولا يؤمر ولا ينهى.
بل تراهم جرَّأوا الناس على أن ينصحوهم ويقوّموهم، كما قال أبو بكر في أول خطبة له: إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.
وكان عمر يقول: مرحبا بالناصح أبد الدهر. مرحبا بالناصح غدوا وعشيا.
وقال قولته المعروفة: من رأى منكم في اعوجاجا فليقومني
أتمثل هذه الدولة -وهذا منهاجها، وهؤلاء أفرادها- دولة دينية تحكم بالحق الإلهي؟ أم هي دولة يحكمها بشر غير معصومين، تقيدهم شريعة الله، وتراقبهم الأمة، وتحاسبهم، وتعتبرهم أجراء عندها كما قال أبو مسلم الخولاني لمعاوية. وقد نظم ذلك أبو العلاء بقوله:
ثمُلَّ المقامُ فكم أعاشرُ أمـــةً أمرَتْ بغير صلاحِها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدَها وعدَوْا مصالحها وهمُ أُجَراؤها
وقولنا: إن الدولة الإسلامية دولة مدنية، قاله من قبلنا الإمام محمد عبده في رده الشهير على فرح أنطون في كتابه الأصيل المعروف: (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية). قال الأستاذ الإمام:
(إن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدِّينية ... التي عرفتها أوربا ... فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير عن الشر ... وهي سلطة خوَّلها الله لكل المسلمين، أدناهم وأعلاهم ... والأمة هي التي تولي الحاكم ... وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة، عند المسلمين، بما يسميه الأفرنج (ثيوكرتيك)، أي سلطان إلهي ... فليس للخليفة -بل ولا للقاضي، أو المفتي، أو شيخ الإسلام- أدنى سلطة على العقائد وتحرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية، قدرها الشرع الإسلامي ... فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه ... بل إن قلب السلطة الدِّينية، والإتيان عليها من الأساس، هو أصل من أجَلِّ أصول الإسلام؟!).
لكن نفي (الوصف الدِّيني) -أعني الكهنوتي والثيوقراطي والحكم بالحق الإلهي بواسطة طبقة بعينها- لا يعني نفي (الوصف الإسلامي) عنها. فهي دولة (مدنية) مرجعيتها الشريعة الإسلامية.
وذلك (لأن الإسلام -كما يقول الأستاذ الإمام: دين وشرع، فهو قد وضع حدودا، ورسم حقوقا ... ولا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة ... والإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان شأنه أن يحاسب قيصر على ما له، ويأخذ على يده في عمله ... فكان الإسلام: كمالا للشخص ... وألفة في البيت ... ونظاما للمُلك.
الدولة الإسلامية ورجال الدِّين
ومن الأوهام المعششة في كثير من الأذهان والتي يروجها دعاة العلمانية: أن الدولة الإسلامية هي دولة المشايخ ورجال الدِّين. وربما اقتبسوا هذه الصورة من حكم الكنيسة الغربية قديما، وهو الحكم الثيوقراطي المعروف. وربما ذكر بعضهم دولة الملالي وآيات الله وحجج الاسلام، في الجمهورية الإسلامية في إيران.
وقياس الإسلام على المسيحية قياس باطل من أساسه، فالمسيحية تقوم على نظام كهنوتي معترف به، له سلطانه ونفوذه وأملاكه، ورجاله، على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم في سلم القيادة المسيحية. ولا يوجد هذا في الإسلام.
فالمسلم يستطيع أن يؤدي عبادته من صلاة وصيام وزكاة وحج، بدون وساطة كاهن، وليس بينه وبين الله وساطة، وباب الله مفتوح له في كل حين، وكل حال، ليس عليه حاجب ولا بواب. وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186].
وحكم الملالي والآيات في إيران ليس لازما، وإن رشحتهم للقيادة أكثر من غيرهم: نظرية (ولاية الفقيه). ولكن رأينا أول رئيس للجمهورية بعد انتصار الثورة، وبإقرار الإمام الخميني نفسه: كان مدنيا، هو الحسن بني صدر. وإن حدث خلاف معه بعد ذلك.
ورأينا رئيس الجمهورية الحالي محمود أحمدي نجاد ينتصر في الانتخابات على أحد مشايخ الدِّين، ورموز النظام، وهو حجة الإسلام رفسنجاني.
وفي كل المذاهب الإسلامية -ومذهب أهل السنة خاصة- يرشح الشخص للمنصب: صفتان أساسيتان: القوة والأمانة، كما أشار إلى ذلك القرآن: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين [القصص:26]
والقوة تعني: الكفاية والقدرة على أداء العمل بجدارة، بما لدى الشخص من مواهب وثقافة وخبرة وقدرة. فهذا يعني: الجانب العلمي والفني.
والأمانة: تعني الجانب الخُلُقي، بحيث يخشى الله في عمله، لا يغش ولا يخون، ولا يهمل، ولا يتعدى حدا من حدود الله، ولا يجور على حق من حقوق الناس.
كلمة نيّرة للشيخ الغزالي
فهذا هو المطلوب في رجل الدولة المسلمة، قبل أي شيء آخر. وتعجبني كلمات قالها شيخنا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله حين كان يرد على الشيخ خالد محمد خالد، تحت عنوان (شبهات حول الحكم الدِّيني). أحببت أن أسجلها هنا لما فيها من روعة البيان وقوة الحجة. قال رحمه الله:
(يقع في الوهم أن الحكم الدِّيني إذا أقيم فسيكون رجاله هم أنفسهم أولئك الذين نسميهم الآن (رجال الدِّين) وقد تثبت في الخيال صور لعمائم كبيرة ولحى موفورة وأردية فضفاضة.
وقد تتوارد هذه الصور وملابساتها الساخرة فنظن أن الوزراء في هذه الحكومة سيديرون عجلة الحياة إلى الوراء، وينشغلون بأمور لا تمت إلى حقائق الدنيا وشئون العمران بصلة.
ومن يدري؟ فقد يشتغلون بالوعظ ومحاربة البدع والاستعداد للحياة الآخرة.
وحسبهم ذلك من الظفر بالحكم!
وهذا وهم مضحك، ولعله بالنسبة إلى الإسلام خطأ شائن.
فنحن لا نعرف نظاما من الكهنوت يحمل هذا الاصطلاح المريب (رجال الدِّين).
وقد يوجد فريق من الناس يختص بنوع من الدراسات العلمية المتعلِّقة بالكتاب والسنة، ولكن هذا النوع من الدراسات لا يعدو أن يكون ناحية محدودة من آفاق الثقافة الإسلامية الواسعة، تلك الثقافة التي تشمل فنونا لا آخر لها من حقائق الحياتين ومن المعرفة المادية وغير المادية.
والعلماء بالكتاب والسنة يمثلون فريقا من المسلمين قد يكون مثل غيره أو دونه أو فوقه، ولم يكن التقدم الفقهي مُرشِحا للحكم في أزهى عصور الإسلام.
وقد كان أبو هريرة وابن عمر وابن مسعود من أعرف الصحابة بالكتاب والسنة، ومن أكثرهم تحديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فهل كانت منزلتهم في بناء الدولة الإسلامية منزلة الخلفاء الأربعة أو منزلة سعد بن أبي وقاص أو خالد بن الوليد أو أبي عبيدة بن الجراح؟
الواقع أن المسلمين كافة رجال لدينهم -أو ذلك ما يجب أن يكون -والذي يخدم دينه في ميدان القتال أو السياسة أو الحكم أو الصناعة أو العلم هو لا ريب رجل لدينه لا غبار عليه.
وليس أحد أحق من أحد بهذا الوصف، ولا كان احتكارا لطائفة دون أخرى يوما ما.
والصورة الصادقة للحكومة -كما يقيمها الإسلام- صورة رجال أحرار الضمائر والعقول، يفنون أشخاصهم ومآربهم في سبيل دينهم وأمتهم.
صورة كفايات خارقة، وثروات عريضة، من بعد النظر، ودقة الفَهم، وعظم الأمانة، تسعد بها المبادئ والشعوب.
صورة أفراد لهم مهارة عبد الرحمن بن عوف في التجارة، وابن الوليد في القيادة، وابن الخطاب في الحكم؛ قد يولدون في أوساط مجهولة فلا تبرزهم إلا مواهبهم ومَلَكاتهم في مناحي الدنيا وميادين العمل.
إن الحكم الدِّيني ليس مجموعة من الدراويش والمتصوفة والمنتفعين في ظل الخرافات المقدسة ... ويوم يكون كذلك فالإسلام منه بريء)
قيام الدولة الإسلامية على عقيدة الحاكمية لا يعني: أنها دولة دينية:
وأما من استدل من الكتاب المعاصرين على أن الدولة الإسلامية دولة دينية -على معنى أنها تحكم بالحق الإلهي- بأنها تقوم على عقيدة الحاكمية الإلهية، التي دعا إليها بقوة: أبو الأعلى المودودي في باكستان، وسيد قطب في مصر. وهي نفس الفكرة التي دعا إليها الخوارج قديما.
فالحق أن فكرة الحاكمية أساء فَهمها الكثيرون، وأدخلوا في مفهومها ما لم يرده أصحابها.
وأود أن أنبه هنا على جملة ملاحظات حول هذه القضية
وهذا المعنى الساذج للحكم أو الحاكمية أصبح في ذمة التاريخ، ولم يعد أحد يقول به، حتى الخوارج أنفسهم وما تفرع عنهم من الفرق، فهم طلبوا الإمارة وقاتلوا في سبيلها، وأقاموها بالفعل، في بعض المناطق، فترات من الزمان.
أما الحاكمية بالمعنى التشريعي، ومفهومها: أن الله سبحانه هو المُشرَّع لخَلقه، وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحل لهم ويحرم عليهم، فهذا ليس من ابتكار المودودي ولا سيد قطب، بل هو أمر مقرَّر عند المسلمين جميعا. ولهذا لم يعترض على رضي الله عنه على المبدأ، وإنما اعترض على الباعث والهدف المقصود من وراء الكلمة. وهذا معنى قوله: "كلمة حق يُراد بها باطل".
وقد بحث في هذه القضية علماء (أصول الفقه) في مقدماتهم الأصولية التي بحثوا فيها عن الحكم الشرعي، والحاكم، والمحكوم به، والمحكوم عليه.
فها نحن نجد إماما أصوليا مثل حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، يقول في مقدمات كتابه الشهير (المستصفى من علم الأصول) عن (الحكم) الذي هو أول مباحث العلم، وهو عبارة عن خطاب الشرع، ولا حكم قبل ورود الشرع، وله تعلُّق بالحاكم، وهو الشارع، وبالمحكوم عليه، وهو المكلف، وبالمحكوم فيه، وهو فعل المكلف...
ثم يقول: (وفي البحث عن الحاكم يتبين أن (لا حكم إلا لله) وأن لا حكم للرسول، ولا للسيد على العبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه لا حكم لغيره).
ثم يعود إلى الحديث عن (الحاكم) وهو صاحب الخطاب الموجه إلى المكلَّفين، فيقول: (أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخَلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والسيد والأب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب من الله تعالى طاعتهم، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا، كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذن الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته).
فليس معنى الحاكمية الدعوة إلى دولة ثيوقراطية، بل هذا ما نفاه كل من سيد قطب والمودودي رحمهما الله.
أما سيد قطب، فقال في (معالمه):
(ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم -هم رجال الدِّين- كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم (الثيوقراطية) أو الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مردُّ الأمر إلى الله وفق ما قرَّره من شريعة مبينة).
وأما المودودي، فقد أخذ بعض الناس جزءا من كلامه وفهموه على غير ما يريد، ورتبوا عليه أحكاما ونتائج لم يقل بها، ولا تتفق مع سائر أفكاره ومفاهيم دعوته، التي فصَّلها في عشرات الكتب والرسائل والمقالات والمحاضرات. وهذا ما يحدث مع كلام الله تعالى وكلام رسوله، إذا أخذ جزء منه معزولا عن سياقه وسباقه، وعن غيره مما يكمله أو يبينه أو يقيده، فكيف بكلام غيرهما من البشر؟
فقد ذكر المودودي خصائص الديمقراطية الغربية ثم قال: (وأنت ترى أنها ليست من الإسلام في شيء. فلا يصح إطلاق كلمة (الديمقراطية) على نظام الدولة الإسلامية، بل أصدق منها تعبيرا كلمة (الحكومة الإلهية أو الثيوقراطية)).
ثم استدرك فقال: (ولكن الثيوقراطية الأوروبية تختلف عنها الحكومة الإلهية (الثيوقراطية الإسلامية) اختلافا كليا، فإن أوروبا لم تعرف منها إلا التي تقوم فيها طبقة من السدنة مخصوصة يشرعون للناس قانونا من عند أنفسهم، حسب ما شاءت أهوائهم وأغراضهم، ويسلطون ألوهيتهم على عامة أهل البلاد متسترين وراء القانون الإلهي، فما أجدر مثل هذه الحكومة أن تسمى بالحكومة الشيطانية منها بالحكومة الإلهية!
وأما الثيوقراطية التي جاء بها الإسلام فلا تستبد بأمرها طبقة من السدنة أو المشايخ، بل هي التي تكون في أيدي المسلمين عامة، وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشئونها وفق ما ورد به كتاب الله وسنة رسوله. ولئن سمحتم لي بابتداع مصطلح جديد لآثرت كلمة (الثيوقراطية الديمقراطية) أو (الحكومة الإلهية الديمقراطية) لهذا الطراز من نظم الحكم، لأنه قد خوَّل فيها للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة. وذلك تحت سلطة الله القاهرة وحكمه الذي لا يغلب، ولا تتألف السلطة التنفيذية إلا بآراء المسلمين، وبيدهم يكون عزلها من نصبها، وكذلك جميع الشئون التي يوجد عنها في الشريعة حكم صريح، لا يقطع فيها بشيء إلا بإجماع المسلمين.
وكلما مست الحاجة إلى إيضاح قانون أو شرح نص من نصوص الشرع، لا يقوم ببيانه طبقة أو أسرة مخصوصة فحسب، بل يتولى شرحه وبيانه كل مَن بلغ درجة الاجتهاد من عامة المسلمين.
فمن هذه الوجهة يعد الحكم الإسلامي (ديمقراطيا)).
فهذا ما يُفهم من مجموع كلام المودودي، وإن كان لنا تحفظ على تسميته الحكومة الإسلامية (ثيوقراطية) لما فيه من إيهام التشابه بـ(الثيوقراطيات) المعروفة في التاريخ، وإن نفى هو ذلك.
وهذه الحاكمية -بهذا المعنى- لا تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن به الله لهم. إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله، وذلك مثل التشريع الدِّيني المحض، كالتشريع في أمر العبادات بإنشاء عبادات وشعائر من عند أنفسهم، أو بالزيادة فيما شرع لهم باتِّباع الهوى. أو بالنقص منه كما أو كيفا، أو بالتحويل والتبديل فيه زمانا أو مكانا أو صورة. ومثل ذلك التشريع في أمر الحلال والحرام، كأن يحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل لله، وهو ما اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم نوعا من (الربوبية) وفسر به قوله تعالى في شأن أهل الكتاب: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31].
وكذلك التشريع فيما يصادم النصوص الصحيحة الصريحة كالقوانين التي تقر المنكرات، أو تشيع الفواحش ما ظهر منها وما بطن، أو تعطل الفرائض المحتَّمة، أو تلغي العقوبات اللازمة، أو تتعدى حدود الله المعلومة.
أما فيما عدا ذلك فمن حق المسلمين أن يشرعوا لأنفسهم. وذلك في دائرة ما لا نص فيه أصلا وهو كثير، وهو المسكوت عنه الذي جاء فيه حديث: "وما سكت عنه فهو عفو" وهو يشمل منطقة فسيحة من حياة الناس.
ومثل ذلك ما نص فيه على المبادئ والقواعد العامة دون الأحكام الجزئية والتفصيلية.
ومن ثَمَّ يستطيع المسلمون أن يشرعوا لأنفسهم بإذن من دينهم في مناطق واسعة من حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، غير مقيدين إلا بمقاصد الشريعة الكلية، وقواعدها العامة. وكلها تراعي جلب المصالح، ودرء المفاسد، ورعاية حاجات الناس أفرادا وجماعات.
وكثير من القوانين التفصيلية المعاصرة لا تتنافى مع الشريعة في مقاصدها الكلية، ولا أحكامها الجزئية، لأنها قامت على جلب المنفعة، ودفع المضرة، ورعاية الأعراف السائدة.
وذلك مثل قوانين المرور أو الملاحة أو الطيران، أو العمل والعمال، أو الصحة أو الزراعة، أو غير ذلك مما يدخل في باب السياسة الشرعية، وهو باب واسع.
ومن ذلك تقييد المباحات تقييدا جزئيا ومؤقتا، كما منع سيدنا عمر الذبح في بعض الأيام، وكما كره لبعض الصحابة الزواج من غير المسلمات، حتى لا يقتدى بهم الناس، ويكون في ذلك فتنة على المسلمات.
والأستاذ المودودي -وهو أشهر من نادى بالحاكمية، وتشدد فيها- قد بيَّن في كلامه أن للناس متسعا في التشريع فيما وراء القطعيات والأحكام الثابتة والحدود المقرَّرة. وذلك عن طريق تأويل النصوص وتفسيرها، وعن طريق القياس، وطريق الاستحسان، وطريق الاجتهاد